كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
الأعجاز جمع عجْز وهو مؤخر الشيء، ومنه العجْز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور، والمنقعر المنقلع من أصله: يقال: قعرت النخلة: قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره.
وكرّر قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} للتهويل. وقيل: الأوّل: لما حاق بهم في الدنيا، والثاني: لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضًا في قصتهم: {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى} [فصلت:].
وتقدّم تفسير قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} وكرّره إيذانًا بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها منهم القدر.
ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي قصة عاد في الفظاعة، فقال تعالى: {كذبت ثمود} أي قوم صالح عليه السلام وقوله تعالى: {بالنذر} جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام إن لم يؤمنوا به.
ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى: {فقالوا} منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار {أبشرًا} إنكار الرسالة، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره {نتبعه} الآتي، وقولهم: {منا} نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وقولهم: {واحدًا} نعت له أيضًا، ثم عظموا الإنكار بقولهم {نتبعه} أي: نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى: كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.
ثمَّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين: {إنَّا إذًا} أي: إن أتبعناه {لفي ضلال} أي: ذهاب عن الصواب محيط بنا {وسعر} أي: ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا: إن اتبعناك كنا إذًا كما تقول، وقيل: السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر:
كأنّ بها سعر إذا العيس هزها ** ذميل وإرخاء من السير متعب

ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا: {أألقي} أي: أنزل {الذكر} أي: الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة {عليه} لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئًا منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم: {من بيننا} أي: وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفًا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واوًا والتحقيق.
ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم: {بل هو كذاب} أي: بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر {أشر} أي: متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع، قال الله تعالى: {سيعلمون} أي: بوعد لا خلف فيه {غدًا} أي: في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.
وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان: أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه. والثاني: أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات، والباقون بياء الغيبة جريًا على الغيب قبله في قوله تعالى: {فقالوا أبشرًا} واختار هذه القراءة مكي، لأنّ عليها الأكثر. {من الكذاب الأشر} أي: وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح صلى الله عليه وسلم وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {مرسلوا الناقة} أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحًا عليه السلام: مخصصين له من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام نريد أن نعرف المحق، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم، وصدق هو عليه السلام في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها {فتنة لهم} أي: امتحانًا يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها وتخليهم عنها، لأنّ المعجزة فتنة لأنّ بها يتميز المثاب من المعذب، فالمعجزة تصديق وحينئذ يفترق المصدّق من المكذب، أو يقال: إخراج الناقة من الصخرة معجزة ودورانها بينهم وقسمة الماء كان فتنة، ولهذا قال تعالى: {إنا مرسلوا الناقة} ولم يقل: {مخرجوا}.
{فارتقبهم} أي: كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم {واصطبر} أي: عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق {ونبئهم} أي: أخبرهم إخبارًا عظيمًا بأمر عظيم وهو {أن الماء} أي: الذي يشربونه وهو ماء بئرهم {قسمة بينهم} أي: بين قوم صالح عليه السلام والناقة فغلَّب العاقل عليها، والمعنى أنا إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم وتوسع الكل بدل الماء لبنا.
{كل شرب} أي: نصيب من الماء {محتضر} أي: فالناقة تحضر الماء يوم وردها وتغيب عنهم يوم ورودهم قاله: مقاتل، وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غيبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.
تنبيه:
الحكمة في قسمة الماء إمّا لأنّ الناقة عظيمة الخلق فتنفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإمّا لقلة الماء فلا يحملهم، وإمّا لأنّ الماء كان مقسومًا بينهم لكل فريق يوم، فيوم ورد الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النقصان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء، روي أنهم كانوا يكتفون في يوم وردها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها وظاهر قوله تعالى: {كل شرب محتضر} يعضد الوجه الثالث، وحضر واحتضر بمعنى واحد.
وقوله تعالى: {فنادوا صاحبهم} فيه حذف قبله، أي: فتمادوا على ذلك ثم ملّوه فعزموا على عقرها فنادوا صاحبهم وهو قدّار بن سالف الذي انتدبوه بطرًا وأشرًا لقتل الناقة وكذبًا في وعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وكان أشجعهم، وقيل كان رئيسهم.
{فتعاطى} أي: فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث به {فعقر} أي: فتسبب عن ذلك عقرها، وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، والتعاطي تفاعل الشيء بتكليف. قال محمد بن إسحق كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة ثم نحرها. وقال ابن عباس: كان الذي عقرها احمر أزرق أشقر أكشف أقعى يقال له قدار بن سالف، والعرب تسمي الجزار قدار تشبيهًا بقدار بن سالف مشؤوم آل ثمود.
{فكيف كان عذابي} أي: كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه {ونذر} أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أي وقع موقعه.
وبينه بقوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة {أرسلنا} أي: إرسالًا عظيمًا {عليهم صيحة} وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابه بقوله تعالى: {واحدة} صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن لهم بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، كما قال تعالى: {فكانوا كهشيم المحتظر} [القمر:].
وهو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك يحفظهنّ فيها من الذئاب والسباع، وما يسقط من ذلك فما داسته هو الهشيم والهشيم المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشم لهشمه الثريد في الجفان غير أنّ الهشيم يستعمل كثيرًا في الحطب المتكسر اليابس قال المفسرون كانوا كالخشب المتكسر الذي يخرج من الحظائر، بدليل قوله تعالى: {هشيمًا تذروه الرياح} [الكهف:].
وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف، وتشبيههم بالهشيم: إمّا لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يضعه شيئًا فوق شيء منتظرًا حضور من يشتري منه. قال ابن عادل: ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد، كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء:]، وقوله تعالى: {فكانوا لجهنم حطبا} [الجن:].
تنبيهات:
أحدها: أنه تعالى ذكر {فكيف كان عذابي ونذر} في ثلاثة مواضع؛ ذكرها في حكاية نوح عليه السلام بعد بيان العذاب؛ وذكرها هاهنا قبل بيان العذاب؛ وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه، وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان، كقول العارف حكاية لغير العارف: هل تعلم كيف كان أمر فلان؟ وغرضه أن يقول: أخبرني عنه وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم؛ كقول فلان: أي ضرب وأيما ضرب، ويقول: ضربته وكيف ضربته؟ أي قويًا وفي حكاية عاد ذكرها مرتين: للبيان والاستفهام.
ثانيها: أنه تعالى ذكر في حكاية نوح عليه السلام الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان؛ لأنّ عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عمّ العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصًا بهم.
ثالثها: أنه تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه، لأنّ حال صالح عليه السلام كان أتمّ مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أتى بأمر عجيب أرضى، وكان أعجب مما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنّ عيسى عليه السلام أحيى الميت، لكن الميت كان محلا للحياة، فقامت الحياة بإذن الله تعالى في محل كان قابلًا لها، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعبانًا، فأثبت الله تعالى له في الخشب الحياة بإذنه سبحانه، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو، فأشبه الحيوان في النمّو، وصالح عليه السلام كان الظاهر في بدء خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد ليس محلًا للحياة، ولا محلًا للنمو، ونبينا صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل، وهو المتصرّف في الجرم السماوي الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء، وأمّا الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد تقبل كل واحدة منها صورة الأخرى، والسماويات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتمّ وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم.
{ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، {للذكر} أي: الحفظ، والتذكر، والتدبر وحصول الشرف في الدارين؛ {فهل من مدّكر} أي: من ناظر بعين الإنصاف، والتجرّد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فيعينه عليه.
ولما انقضت قصة ثمود بما تعرفه العرب بالأخبار، ورؤية الآثار، فقال تعالى: {كذبت قوم لوط} أي: وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه، وإن كانوا في تكذيبهم هذا أضعف من عقول النساء عن التجرد عن الهوى بما دلّ عليه تأنيث الفعل بالتاء، وكذا ما قبلها من القصص {بالنذر} أي: بالأمور المنذرة لهم على لسان نبيهم لوط عليه السلام.